الفصل السابع والعشرون في الشيعة
اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم. ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر وأن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة. وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي وخفي: فالجلي مثل قوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه ". قالوا: ولم تطرد هذه الولاية إلا في علي ولهذا قال له عمر: " أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة ". ومنها قوله: أقضاكم علي ولا معنى للإمامة إلا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " والمراد الحكم والقضاء. ولهذا كان حكماً في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره. ومنها قوله: " من يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي " فلم يبايعه إلا علي. ومن الخفي عندهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ. قالوا: وهذا يدل على تقديم علي. وأيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي. وأما أبو بكر وعمر فقدم عليهما في غزاتين أسامة بن زيد مرة وعمرو بن العاص اخرى. وهذه كلها أدلة شاهدة بتعين علي للخلافة دون غيره. فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم. ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي وتشخيصه وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية ويتبرؤون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص ويغمصون في إمامتهما. ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم. ومنهم من يقول: أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزيدية ولا يتبرؤون من الشيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد علي: فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على ما يذكر بعد وهؤلاء يسمون الإمامية نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداً شجاعاً داعياً إلى إمامته وهؤلاء هم الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن علي بن الحسين السبط وقد كان يناظر أخاه محمداً الباقر على اشتراط الخروح في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماماً لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج. وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إياها عن واصل بن عطاء. ولما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمة وبذلك سموا رافضة. ومنهم من ساقها بعد علي وابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية ثم إلى ولده وهم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه. وبين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً. ومنهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات ألوهية أو أن الإله حل في ذاتهم البشرية وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه. ولقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته والبراءة منه وكذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه. ومنهم من يقول: أن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتناسخ. ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم وهؤلاء هم الواقفية. فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس ويستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه وإنه في السحاب والرعد صوته والبرق في سوطه. وقالوا مثله في محمد بن الحنفية وإنه في جبل رضوى من أرض الحجاز وقال شاعرهم: ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء: علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لايذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللواء تغيب لايرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء وقال مثله غلاة الإمامية وخصوصاً الاثني عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم بالحلة وتغيب حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمونة المنتظر لذلك ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب وقد قوموا مركباً فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون ويرجئون الأمر إلى الليلة الأتية وهم على ذلك لهذا العهد. وبعض هؤلاء الواقفية يقول: أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا. ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف والذي مر على قرية وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها. ومثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة ولا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها. وكان من هؤلاء السيد الحميري ومن شعره في ذلك: إذا ما المرء شاب له قذال وعلله المواشط بالخضاب فقد ذهبت بشاشته وأودى فقم ياصاح نبك على الشباب إلى يوم تؤوب الناس فيه إلى دنيا همو قبل الحساب فليس بعائد ما فات منه إلى أحد إلى يوم الإياب أدين بأن ذلك دين حق وما أنا في النشور بذي ارتياب كذاك الله أخبر عن أناس حيوا من بعد درس في التراب وأما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم الهاشمية. ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي. وآخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم. وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس. وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثير وأبو سلمة الخلال وغيرهم من شيعة العباسية. وربما يعضدون ذلك بأن حقهم في هذا الأمر يصل إليهم من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة وهو أولى بالوراثة بعصبية العمومة. وأما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص. فقالوا بإمامة علي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه زيد بن علي وهو صاحب هذا المذهب. وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة. وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط ويقال له النفس الزكية فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله وهي معدودة في كراماته. وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر وعمر هوأخو زيد بن علي فخرج محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه. وقال آخرون من الزيدية: أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع المنصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم. وقال آخرون من الزيدية: أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس وكان من بعده عقبه ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. وبقي أمر الزيدية بعد ذلك غير منتظم. وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط وأخوه محمد بن زيد. ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم وأسلموا على يده وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. وأما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضا إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق. ومن هنا افترقوا فرقتين: فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيلية وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأئمة وقولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر. فأما الإسماعيلية فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر. وفائدة النص عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما. قالوا: ثم انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم وهو أول الأئمة المستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته. قالوا وبعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق وبعده ابنه محمد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة وتتابع الناس على دعوته ثم أخرجه من معتقله ويسمى هؤلاء الإسماعيلية نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد. ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة وملك حصوناً بالشام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر وملوك التتر بالعراق فانقرضت. ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل والنحل للشهرستاني. وأما الاثنا عشرية خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه محمد بن الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل. وفي كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثيرة إلا أن هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب " الملل والنحل " لابن حزم والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك. والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العلي الكبير. في انقلاب الخلافة إلي الملك اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله منها. وفي الصحيح: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ". ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها فقال: " إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب " وقال تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". ووجدناه أيضاً قد ذم الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق والإسراف في غير القصد والتنكب عن صراط الله. وإنما حض على الألفة في الدين وحذر من الخلاف والفرقة. واعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة ومن فقد المطية فقد الوصول. وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً وتتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه وسلم: " من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". فلم يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق وبطل الجهاد إعلاء كلمة الله وإنما يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموماً وإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحاً وهو من شمائله صلى الله عليه وسلم. وكذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية وكذا العصبية حيث ذمها الشارع وقال: " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم " فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية وأن يكون لأحد فخربها أو حق على أحد لأن ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الأخرة التي هي دار القرار. فأما إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل. وكذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل وتصريف الأدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه. فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحملهم على وقد قال سليمان صلوات الله عليه: " رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك. ولما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة استنكر ذلك وقال: " أكسروية يا معاوية " فقال. " يا أمير المؤمنين إنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة " فسكت ولم يخطئة لما احتج عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين. فلو كان القصد رفض الملك أصله لم يقنعه هذا الجواب في تلك الكسروية وانتحالها بل كان يحرض على وجه عنها بالجملة. وإنما أراد عمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم وإنما قصده بها وجه الله فسكت. وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل. فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين. فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام. ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم. ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضي الله عنهما والكل متبرئون من الملك متنكبون على طرقه. وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم ولا من حيث بداوتهم. ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه. فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه. وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم. حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم زحفوا إلى أمم فارس والروم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق. فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها. فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر. وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد وكان علي يقول: " يا صفراء وبا بيضاء غري غيري ". وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ. وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنما كانوا يأكلون الحنطة بنخالها. ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم. قال المسعودي: في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة. وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخفف ألف فرس وألف أمة. وكان غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة ألاف من الغنم وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار. وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية. وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج. وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات. وبني المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم. كلام المسعودي. فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم إذ هي أموال لأنها غنائم وفيوء ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد. وإذا كان حالهم قصداً ونفقاتهم في سبل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق واكتساب الدار الأخرة. فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق. ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد. وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاد في الحق فاقتتلوا عليه. وإن كان المصيب علياً فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق وأخطأ. والكل كانوا في مقاصدهم على حق. ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به. ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته بنو أمية ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه. ولم حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة. وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر: " لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة. وهذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية. فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه. ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبوة والحق. وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظن بمعاوبة غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا لله لمعاوية من ذلك. وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد. يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتج مالك في الموطإ بعمل عبد الملك. وأما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين وعدالتهم معروفة. ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه. وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده ولم يهمل. ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها. فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم. وولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح. ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم منه. والله لا يظلم مثقال ذرة. ومن تأمل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه. وقد حكى المسعودي مثله في أحوال بني أمية عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أمية فقال: " أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه وأما عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام ". قال: ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونة ويصونون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالي الأمور ورفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات وركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه وأمناً لمكره مع اطراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحق الرياسة وضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز وألبسهم الذل ونفى عنهم النعمة ". ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال: " أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت له فرش ذات قيمة فقلت له ما منعك من القعود على ثيابنا فقال: إني ملك! وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله. ثم قال: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم! قال: فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم! قال: فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم قلت: ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. فأطرق ينكت بيده في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي وقال: " ليس كما ذكرت! بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم. ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم. وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم. وإنما الضيافة ثلاث. فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي. فتعجب المنصور وأطرق. فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأن الأمر كان في أوله خلافة ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة. فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى ومنع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة ولو أدى إلى هلاكه. وهذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته وتتفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام. وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق والنصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي: لا والله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم. ولكن منعني مما أشرت به ذائد الحق. وهكذا كانت أحوالهم في اصطلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً. وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده. ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكاً بحتاً وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ. وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض. ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء. وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين ومغراوة وبني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس والعبيديين بالقيروان. فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة. والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القهار.